سماحة الإسلام
د. مؤمن محجوب
السماحة لغة: من الفعل سَمَحَ سَمْحًا وسَماحًا وسَماحَةً، أي لان وسهُل. والسماحة: الجود والكرم والسهولة(). فالتسامح عفو وصفح ولين في المعاملة، وبُعد عن التعصب، وقَبول الآخرين على اختلاف معتقداتهم.
دعا القرآن الكريم المسلمين إلى التسامح مع غير المسلمين، وبرهم وصلتهم، ما داموا غير محاربين، وفي القرآن آيات كثيرة تدل على ذلك، منها قوله –عز وجل-: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(9)﴾(). قال الطبري في تفسيره: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، من جميع أصناف الملل والأديان أن تبرُّوهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، إن الله –عزّ وجلّ– عمّ بقوله: ﴿الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضًا دون بعض، إن الله يحبّ المنصفين الذين ينصفون الناس، ويعطونهم الحقّ والعدل من أنفسهم، فيبرّون مَن برّهم، ويُحْسنون إلى من أحسن إليهم().
وقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يحض على التسامح مع غير المسلمين، قولًا وفعلًا، خاصة أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ من ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم): “مَن ظلم معاهدًا، أو انتقصـه حقًا، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة“(). وقال (صلى الله عليه وسلم): “من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عامًا”().
أما عن أفعاله (صلى الله عليه وسلم) فيتضح ذلك جليًا في لين معاملته لهم، وأكل طعامهم، وزيارة مريضهم، والقيام لجنائزهم()، واستقباله وفد نصارى نجران في مسجده(). ويتجلى ذلك أيضًا في عدم إجبار غير المسلمين على الدخول في الإسلام، مع إعطائهم الحرية في البقاء على معتقدهم، وممارسة شعائرهم الدينية في دُور العبادة الخاصة بهم، يقول توماس أرنولد: “محمد نفسه قد عقد حلفًا مع بعض القبائل المسيحية، وأخذ على عاتقه حمايتهم، ومنحهم الحرية في إقامة شعائرهم الدينية، كما أتاح لرجال الكنيسة أن ينعموا بحقوقهم ونفوذهم القديم في أمن وطمأنينة”().
ذكر لنا القرآن الكريم قبل الهجرة النبوية أن المسلمين كانوا يحبون أن ينتصر الروم على الفرس؛ لأن الروم أهل كتاب، والفرس أصحاب أوثان، ولكن الروم غُلبوا؛ فنزلت آيات من القرآن الكريم تبشر المؤمنين بأن الروم سيَغلبون الفرس في بِضع سنين، قال الله –عز وجل-: ﴿الم(1) غُلِبَتِ الرُّومُ(2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3 (فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ(4) بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(5)﴾ ().
يقول ابن كثير: “حين غلب سابور ملك الفرس على بلاد الشام وما والاها من بلاد الجزيرة وأقاصي بلاد الروم، واضطر هرقل ملك الروم حتى ألجأه إلى القسطنطينية وحاصره فيها مدة طويلة، ثم عادت الدولة لهرقل… قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق عن سفيان عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (رضي الله عنهما)في قوله تعالى: ﴿الم(1) غُلِبَتِ الرُّومُ(2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾ قال: غُلبت وغَلَبت، قال: كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم؛ لأنهم أصحاب أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل كتاب، فذُكر ذلك لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “أما إنهم سيَغلبون“ فذكره أبو بكر لهم، فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلا، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل أجلا خمس سنين، فلم يظهروا، فذكر ذلك أبو بكر للنبي (صلى الله عليه وسلم) فقال “ألا جعلتها إلى دُون“ أراه قال:“العشر“ قال سعيد بن جبير: البضع ما دون العشر، ثم ظهرت الروم بعد، قال: فذلك قوله: ﴿الم(1) غُلِبَتِ الرُّومُ(2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3(فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ(4) بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(5)﴾“().