النائبُ العامُّ يشهدُ إجراءاتِ استردادِ جِداريتيْنِ أثريتيْنِ في قضيةٍ دوليةٍ لنهبِ وتهريبِ الآثارِ، بالعاصمةِ الفَرنسية
كتب: رامى داود
شهِدَ النائبُ العامُّ المستشارُ/ حماده الصاوي ووفدٌ رفيعُ المستوى مِن مكتبِهِ اليومَ الاثنينِ الموافقَ الثاني عشَرَ من شهرِ يونيُو عامَ ٢٠٢٣ حفلَ استردادِ الدولةِ المصريةِ لجِداريتيْنِ أثريتيْنِ في إحدَى القضايَا الدوليةِ الهامَّةِ لنهبِ وتهريبِ الآثارِ،
وذلكَ تلبيةً لدعوةِ السيدِ السفيرِ/ علاء يوسف سفيرِ جمهوريةِ مصرَ العربيةِ لدَى فَرنسا؛ لحضورِ الحفلِ بمقرِّ السفارةِ بباريسَ على هامشِ الزيارةِ الرسميةِ التي يُجريها النائبُ العامُّ ووفدٌ مِن مكتبِهِ، وذلكَ لبحثِ أوجهِ التعاونِ الدوليِّ القضائيِّ بيْنِ البلديْنِ، خاصةً في التحقيقاتِ المشتركةِ التي يُجريانِها حولَ سلسلةٍ مِن جرائمَ منظمةٍ عابرةٍ للحدودِ الوطنيةِ ارتكبتْهَا جماعةٌ دوليَّةٌ منظمةٌ متعددةُ الجنسياتِ تضطلعُ بنهبِ وتهريبِ الآثارِ المصريةِ
وغيِرها عبرَ مختلِفِ البلادِ الإفريقيةِ والأوروبيةِ والأسيويةِ، والِاتجارِ فيها في أكثرَ مِن دولةٍ بجميعِ أنحاءِ العالمِ على مدارِ سنواتٍ عديدةٍ، وبأساليبَ مُحكمةٍ في التهريبِ وفي تزويرِ مستنداتِ ملكيةِ الآثارِ المدعَى بها، تلكَ القضيةُ التي تُجرِي فيها النيابةُ العامةُ المصريةُ تحقيقاتٍ مشتركةً معَ نُظرائِها الدوليينَ مِن جهاتِ التحقيقِ بدولِ الِاتحادِ الأوروبيِّ وغيرِها مِن الدولِ لملاحقةِ المتهمينَ فيها قضائيًّا، واستردادِ الموجوداتِ والآثارِ المصريةِ المنهوبةِ والمهربةِ إلى خارجِ البلادِ.
وجديرٌ بالذكرِ أنَّ تلكَ القضيةَ هيَ التي سبَقَ فيها اتهامُ مديرِ متحفِ اللوفرِ بالعاصمةِ الفَرنسيةِ خلالَ العامِ الماضِي.
وتأتي زيارةُ النائبُ العامُّ للعاصمةِ الفَرنسيةِ هذهِ المرةَ تعزيزًا للتعاونِ القضائيِّ المتبادلِ بينَ فريقَي التحقيقِ المصريِّ والفَرنسيِّ في القضيةِ الدوليةِ المشارِ إليها،
إذْ ينعقدُ اجتماعٌ بينَهُما عقِبَ حفلِ استردادِ القطعتيْنِ يحضرُهُ مِن وفدِ النيابةِ العامةِ المصريةِ السيدُ المستشارُ رئيسُ الِاستئنافِ/ محمد خلف (مديرُ إدارةِ التعاونِ الدوليِّ بمكتبِ النائبِ العامِّ)، وكلٌّ مِن السيدِ/ أحمد قناوي (رئيسِ النيابةِ بإدارةِ التعاونِ الدوليِّ بمكتبِ النائبِ العامِّ)، والسيدةِ/ داليا محمود (وكيلةِ النائبِ العامِّ بالمكتبِ الفنيِّ)؛
وذلكَ تأكيدًا لإرادةِ النيابةِ العامةِ المصريةِ نحوَ استكمالِ التحقيقاتِ المشتركةِ فيها، واستمرارِها بفاعليةٍ بعدَما توصلتِ النيابةُ العامةُ المصريةُ إلى نتائجَ ومعلوماتٍ هامةٍ فيها تُفيدُ في كشفِ الحقيقةِ، ممَّا سيكونُ له تأثيرٌ إيجابيٌّ على مختلِفِ قضايَا تهريبِ الآثارِ والِاتجارِ فيها،
كما تتمثلُ أهميةُ تلكَ الزيارةِ في تعزيزِ التعاونِ القضائيِّ الوثيقِ رفيعِ المستوى القائمِ بالفعلِ بينَ البلديْنِ، وتكثيفِهِ خلالَ الفترةِ القادمةِ لِاستردادِ باقي الآثارِ المصريةِ المرصودةِ بمختلِفِ البلادِ والثابتِ نهبُها وتهريبُها، وكذا للعثورِ على باقِي القطعِ المفقودةِ التي لم ترصدْ أماكنُها بعدُ.
وكانتْ بِعثةُ المعهدِ الفَرنسيِّ للآثارِ الشرقيةِ برئاسةِ عالمِ الآثارِ المصريةِ الفَرنسيِّ/ فاسييل دوبرييف قدِ اكتشفتْ في عامِ ٢٠٠١ جبَّانةً يَزيدُ عمرُها على أربعةِ آلافٍ ومائتَيْ عامٍ بموقعِ «تبَّةِ الجيشِ» جنوبَ منطقةِ سقَّارةَ بمحافظَةِ الجيزةِ، تضمُّ مقابرَ لأبرزِ كهنةِ الدولةِ المصريةِ القديمةِ، ومنها مقبرةُ الكاهنِ «هاو نفر» أحدِ نُبلاءِ القصرِ الملكيِّ للملكِ «بيبي الأول» ثالثِ ملوكِ الأسرةِ السادسةِ، ثمَّ بعدَ توقفِها مع نهايةِ موسمِ الحفائرِ لعدةِ أشهرٍ وعودتِها للعملِ مرةً أخرَى في أكتوبرَ ٢٠٠٢ تبينتْ فقدَ الحجارةِ المزخرفةِ لواجهَةِ مقصورةِ الكاهنِ المذكورِ،
ورأتْ كسورًا حديثةً بإطارِ بابِها، وفَقدًا في أحجارِ واجهتَيْ مقصورتيْنِ أُخريَيْنِ مما يؤكّدُ انتزاعَها جميعًا ونهبَها خلالَ الفترةِ التي توقفتْ فيها البعثةُ عن أعمالِها، ثم عقِبَ مرورِ نحوِ عشرِ سنواتٍ شاهَدَ العالمُ الفرنسيُّ رئيسُ البعثةِ خلالَ زيارتِهِ متحفَ الفنونِ الجميلةِ بمدينةِ بودابيست بدولةِ المجرِ عرضَ ثلاثِ قطعٍ حجريةٍ منَ المفقودةِ من المقبرةِ التي اكتشفَهَا تحمِلُ جميعُها تصويرًا منقوشًا للكاهنِ «هاو نفر»، كما شاهدَ في توقيتٍ مقاربٍ بيعَ حجارةٍ أخرَى مماثلةٍ في صالةٍ للمزاداتِ بالعاصمةِ الفَرنسيةِ، ثمَّ في العامِ التالي شاهدَ مجموعةً أخرَى كذلكَ معروضةً للبيعِ بذاتِ الصالةِ، فأبلغَ النيابةَ العامةَ المصريةَ وسلطاتِ التحقيقِ الفَرنسيةِ بالواقعةِ اللتيْنِ اتخذتَا إجراءاتِ التحقيقِ الموازيةِ فيها.
وأكَّدَ العالمُ الفَرنسيُّ في شهادتِهِ أمامَ الجهتيْنِ أنَّ القطعَ المنهوبةَ التي شاهدَهَا في المجرِ وباريسَ مِن نتاجِ الِاكتشافِ الذي توصلتْ إليهِ البعثةُ التي كان يَرأسُها، وأودعَ تقريرًا مفصلًا أثبتَ فيه أنه بإعادتِهِ بناءَ الأحجارِ التي شاهدَها -افتراضيًّا باستخدامِ تقنيةٍ حديثةٍ- على واجهةِ مقصورةِ مقبرةِ الكاهنِ تبيَّنَ تطابقُهَا تمامًا، وتوافقُ الكسورِ فيها مع نظيرتِهَا ببابِ المقبرةِ، فضلًا عن مشابهةِ التطورِ الخَطيِّ للعلاماتِ الهيروغليفيةِ على الأحجارِ المباعةِ في باريسَ لمثيلتِهَا المنقوشةِ داخلَ فناءِ مقصورةِ الكاهنِ.
وقد كشفتِ التحقيقاتُ المجراةُ في الواقعةِ أنَّ أحدَ المتهمينَ هو تاجرُ آثارٍ ومديرُ أحدِ المعارضِ الشهيرةِ بباريسَ، وسبقَ لهُ العملُ خبيرًا في هذا المجالِ لدى عددٍ من هيئاتِ الجماركِ، وأنه تمكَّنَ من تهريبِ القطَعِ جميعِهَا التي في المجرِ وباريسَ، وادَّعَى على خلافِ الحقيقةِ شراءَهَا مِن أحدِ الأشخاصِ في سويسرا، الذي اشترَاها بدورِهِ من سيدةٍ فَرنسيةٍ في السبعينياتِ، إذْ أكّدتِ التحقيقاتُ كذِبَ أقوالِهِ لثبوتِ تزويرِ وثيقةِ البيعِ التي تحملُ إمضاءً منسوبًا للسيدةِ المذكورةِ، حيثُ تبينَ بمضاهاتِهِ بإمضائِهَا الحقيقيِّ على وصيةٍ تركتْهَا لأحدِ ذوِيها أنه توقيعٌ مزورٌ غيرُ منسوبٍ لها، كما تبيَّنَ كذلكَ أنَّ قسيمةَ شراءِ المتهمِ للقطعِ المنهوبةِ مِن سويسرا تحملُ خطأً في اسمِ البائعِ.
وكان مما يُؤكدُ كذلكَ تزويرَ مستنداتِ الملكيةِ المدَّعَى بها تلكَ ما أكَّدهُ العالمُ الفرنسيُّ في شهادتِهِ أمامَ جهاتِ التحقيقِ من عدَمِ توافقِ تلكَ المستنداتِ مع حقيقةِ ما عثرتْ عليهِ البعثةُ التي كان يرأسُها بموقعِ «تبَّةِ الجيشِ» الأثريِّ، إذ كانَ يتحتمُ على مَن حصَلَ على تلكَ القطعِ في السبعينياتِ أنْ يحفرَ حفرةً ضخمةً على خلافِ ما أكدتْهُ البعثةُ مِن عدَمِ إجراءِ أيِّ أعمالِ حفرٍ شرعيةٍ أوْ غيرِ شرعيةٍ قبلَ عامِ ألفيْنِ الذي اكتشفتِ الموقعَ فيه، فضلًا عن عثورِها في بداياتِ الحفرِ على هيكلٍ عظميٍّ بحالةٍ جيدةٍ فوقَ واجهاتِ المقصورتيْنِ المنهوبتيْنِ، وهو ما يتنافَى مطلقًا معَ ادعاءِ الحصولِ على تلكَ القطعِ في السبعينياتِ، إذ كان يتحتمُ على مَن حفرَ بالموقعِ وقتَئذٍ تحطيمُ هذا الهيكلِ العظميِّ لا محالةَ، وعلى ضوءِ نتائجِ التحقيقِ تلكَ احتجزتْ سلطاتُ التحقيقِ الفرنسيةِ المتهمَ، وتحفظتْ على عددٍ من المعلوماتِ والبياناتِ والوثائقِ ضدَّهُ تمهيدًا لتقديمِهِ للمحاكمةِ.
وفي إطارِ التعاونِ الدوليِّ القضائيِّ بينَ مصرَ وفرنسا تلقتِ السفارةُ المصريةُ لدى فَرنسا استدعاءً من محكمةِ باريسَ لحضورِ جلساتِ نظرِ القضيةِ بعدَ إحالةِ المتهمِ فيها للمحاكمَةِ، باعتبارِ أنَّ مصرَ من المتضررينَ فيها، فوكّلتِ الدولةُ المصريةُ محاميًا فَرنسيًّا ممثلًا عنها في الدعوَى لِلادعاءِ بالحقِّ المدنيِّ فيها، وقد تبيَّنَ بجلساتِ المحاكمةِ اتهامُ المتهمِ بإخفائِهِ عمدًا القطعَ الأثريةَ المنهوبةَ على الأراضِي الفرنسيةِ مع علمِهِ بأنَّها جاءتْ مِن سرقةٍ تم ارتكابُها في مصرَ، واستخدامِ مهنتِهِ كتاجرٍ للتحفِ ومديرٍ لمعرضِ الآثارِ بباريسَ لتسهيلِ عمليةِ الإخفاءِ، وتزويرِهِ مستنداتِ ملكيةِ القطعِ المنهوبةِ باستخدامِ فواتيرَ ومستنداتٍ مزورةٍ، وقد تمَّ تداولُ الدعوَى بالجلساتِ والتي ثبَتَ فيها كذِبُ ادعاءاتِ المتهمِ ودفاعاتِهِ، كما ثبَتَ العثورُ بحاسبِهِ الآليِّ على نماذجَ للمستنداتِ المزورةِ المشارِ إليها، وإقرارُهُ أمامَ المحكمَةِ بعَلاقتِهِ بأحدِ المتهمينَ في القضيةِ الدوليةِ المتهمِ فيها مديرُ متحفِ اللوفر، وأنَّ المذكورَ قدِ اشترَى القطعتيْنِ المنهوبتيْنِ مِن قبلُ.
هذَا، وقد قضتِ المحكمةُ في أكتوبرَ عامَ 2022 بملكيةِ الدولةِ المصريةِ للقطعِ الأثريةِ المنهوبةِ، وإدانةِ المتهمِ وإلزامِهِ بدفعِ غرامةٍ وتعويضٍ ماليٍّ للدولةِ المصريةِ، وأحقيتِها في استردادِ القطعتيْنِ.